كان لعلماء اللغة والنحو سلطة يمارسونها على المبدعين، كما كان للنقاد ولمتذوقي الشعر شيء من هذه السلطة، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى تعقُّب عبد الله بن إسحاق الحضرمي شعر الفرزدق، ورصده لبعض تجاوزاته النحوية والعروضية، وهو ما حمل الفرزدق على  الانتصار للغته الشعرية ودفاعه الحاد عنها، وأن يعبّر عن سخطه الشديد على ذلك الناقد اللغوي.

ومن الحق أن دراسة مظاهر التمرد في الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي على السلطة جديرة بأن ترصد وتجلى  بما يكفي حتى تنحّى عن شعرنا وشعرائنا تلك الصورة النمطية التي علقت في أذهان كثيرين حين قالوا إن شعراءنا الأولين كانوا يجرون في الغالب من إنتاجهم وإبداعهم في ركاب السلطة، إذ كانوا يسعون لتزيين قبائحها، كما كانوا يتغاضون عن أخطائها وهفواتها وينفخون في أبواقها، ويبالغون في تمجيدها إلى حدّ لا يكاد يقبل أو يسوَّغ.

وقد جاء كتابي هذا يترسَّم هذا المنهج حين وقف على أشعار طائفة بارزة من أعلام الشعراء العباسيين المشهود لهم بالتميُّز هم: بشار بن برد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، والمتنبي، كما وقف على أشعار طائفة من الشعراء المعوزين المكدودين، الذين سال الشعر على ألسنتهم شكوى مريرة، وسخطاً حاداً، وتمرداً وبذاءة غير قليلة أضربنا صفحاً عن التمثيل عليها ترفعاً، ولم يكن الوقوف على أشعار هؤلاء الشعراء المتمردين بمعزل عن الوقوف على أخبارهم في المصادر الأمهات، وكان يعنيني في الحالين جميعاً أن أتبيّن مظاهر التمرد البادية في أشعارهم في المقام الأول ليتحقق لهذا الكتاب مبتغاه، وقد جعلته في خمسة فصول، عني الفصل الأول منها برصد مظاهر التمرد على أشكال السلطة في شعر بشار بن برد: تمرده على السلطة السياسية، وعلى السلطة الاجتماعية، وعلى سلطة بعض علماء الدين، وأخيرا على سلطة علماء اللغة والنحو ومتذوقي الشعر عموماً.

وعني الفصل الثاني ببيان تجليات تمرد أبي نواس وزمرته على السلطات المختلفة في عصره: تمرده على الذوق التقليدي المحافظ في  مباني القصائد، وتمرده على النفاق الاجتماعي، وتمرده على بعض القيم الدينية وعلى بعض علماء الدين، شأنه في ذلك شأن بشار بن برد في الانتصار لحقه في أن يحيا حياته مستمتعاً بما تتيحه له ظروف بيئته من ألوان العيش الغضِّ النضر.

وعني الفصل الثالث بالنظر في أشكال التمرد التي أبداها طائفة من شعراء الزهد وعلى رأسهم أبو العتاهية حين انتقدوا اللاهين والمأخوذين بسلطة المال والجاه بلغة وأساليب منكشفة تتساوق ومذهبهم في الاقتراب من السوقة، وحين احتجوا على مظاهر العبث التي شاعت في بعض أوساط الخلفاء والكبراء، وبين ظهراني بعض الفقراء والمكدودين.

وعني الفصل الرابع بشعراء الكدية الذين ضُيِّق عليهم في أرزاقهم، فاتَّسعت في أشعارهم مساحة الانتقاد والشكوى والسخرية المريرة ممن كانوا يحوزون في دورهم وقصورهم كلّ أسباب الثراء. ولم تكن أشعار هذا الفريق من الشعراء في معجمها وفي أساليبها وفي صورها وفي مبانيها إلا صورة أخرى من التمرد على لغة الشعر الرصين.

وعني الفصل الأخير ببيان قضية مركزية في شعر شاعر العروبة الأكبر أحمد بن الحسين المتنبي، هي انتصاره لعروبته وانتقاده الشديد للحكاّم الأعاجم، فانتهى به ذلك الانتصار وذاك الانتقاد إلى أن تُدَبَّر له مكيدة  تنتهي بقتله وقتل كلّ من كانوا معه، وسلبهم أموالهم وخيلهم جميعاً.