ما زال التراث الاندلسي مكتنزاً بالكثير من الموضوعات التي تحتاج الى البحث والتنقيب وإزالة الغبار عنها، وما زال في هذا التراث- شعره ونثره – الكثير من القضايا والأسئلة التي لم يلتفت إليها الدارسون، وقد تضيع بعض الحقائق في غمرة أوهام بعض المؤرخين أو المحققين أو النقاد أو أوائل الدارسين، فتؤخذ هذه الأوهام والأغاليط مسلمات لا يعود الباحثون بعدها راغبين في الخوض فيها أو التحقق منها، ويزيد من تعزيز هذه المسلمات أحياناً ضياع كثير من مصادر التراث التراث الاندلسي التي ربما كان وصولها إلينا سيزيل الغموض عن كثير من المسائل.

وقد حاولت في هذا الكتاب، الذي يتضمن دراسات جديدة في الشعر الأندلسي، أن أكشف عن بعض الحقائق الجديدة في مجال الشعر الأندلسي، وأصحح بعض الأغاليط التي اشتهرت وذاعت في هذا المجال، معتمداً على الأدلة التاريخية والأدبية وعلى تحليل النصوص موضوع الدراسة تحليلاً مضمونياً وفنياً.

وقد اقتصرت في هذا الكتاب على دراسة الشعر الاندلسي دون النثر والموشحات كي لا أشتت ذهن القارئ في آفاق متباعدة من التراث الأدبي الأندلسي، ولأن أسئلة الشعر- كما هي أسئلة النثر والموشحات- متشعبة ومتعددة لا يكاد يدركها الحصر، فأحببت أن أقصر الدراسات في هذا الكتاب علي باب واحد هو باب الشعر.

وقد سبق لي أن نشرت، من بين ما نشرت من الكتب، كتاباً في الشعر الاندلسي عنوانه "قراءات في الشعر الاندلسي" تناولت فيه مجموعة من القصائد والنصوص الشعرية الأندلسية المختارة، بالدرس والتحليل. وقد فتح لي ذلك الكتاب باباً على كثير من قضايا الشعر الاندلسي واسئلته وجدت أنها بحاجة إلى التأمل والبحث والتعمق.

وقد اخترت من هذه القضايا خمس قضايا جعلت كل واحد منها مبحثاً من مباحث الكتاب.

أما المبحث الاول فموضوعه "مقطعات ابن عبد ربه بين الشعر والتوشيح"، وقد سلطت الضوء في هذا المبحث على عدد من ملامح فن الموشح التي ظهرت جلية في عدد غير قليل من مقطعات ابن عبد ربه الشعرية، محاولاُ الاجابة عن التساؤل التالي : هل هذه المقطعات هي المحاولات الأولى لابن عبد ربه في نظم الموشحات؟! ولا سيما أن مصادر فن التوشيح قد أكدت أن أبا عمر أحمد ابن عبد ربه (ت 328 هـ) كان من أوائل من اخترعوا فن الموشح.

وأما المبحث الثاني فموضوعه "الشمس في شعر ابن زيدون"، فمع أن أبا الوليد ابن زيدون (ت 463هـ) لم يعمد إلى عرض وصف الطبيعة في شعره، إلا أنه وظف الطبيعة في شعره توظيفاً متقناً، وكانت الشمس واحدة من عناصر الطبيعة التي احتفى ابن زيدون بتوظيفها في سائر اغراضه الشعرية، وقد عزز هذا التوظيف للشمس بعض الحقائق المتصلة بسيرة ابن زيدون وعلاقاته ومراحل حياته.

وأما المبحث الثالث فعنوانه "رائية ابن جبير في التشوق إلى الحجاز بين الأثر والتأثير"، وقد تناولت فيه قصيدة مشهورة لابن جبير (ت 614هـ) عارضها كثير من الشعراء الاندلسيين والمشارقة الذين عاشوا بعده، غير أن الفضل ذهب إلى قصيدة لشهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي (ت 725هـ) تجري على وزن قصيدة ابن جبير وقافيتها، حيث وهم عدد من مؤرخي الأدب أن الشعراء اللاحقين عارضوا قصيدة الشهاب الحلبي وليس قصيدة ابن جبير، وقد أثبت في هذه الدراسة بطلان ما توهمه هؤلاء المؤرخون.

وتناولت في المبحث الرابع "المقامات المحسنية لأبي عبد الله الجوني" وهي مقامات شعرية تعليمية في القرن السابع الهجري لها مناسبتها وخصائصها وغاياتها الخاصة بها، وهي جديرة بالاهتمام والدراسة.

أما المبحث الخامس فجاء عنوانه "من ملامح الأثر الإسباني في شعر الغزل الأندلسي"، وقد وقفت في هذا المبحث على صور من التأثير الإسباني في أشعار الغزل الأندلسية مستشهداً بنصوص شعرية على كل صورة من هذه الصور.

وكان من أبرز هذه الصور انتشار ظاهرة الغزل بذوات الشعر الاشقر والعيون الزرق، وانتشار ظاهرة الغزل بالنساء الروميات أو ذوات الأصل الرومي، وكذلك الغزل بالنصرانيات ووصف الكنائس ومتعلقاتها، وغير ذلك من الصور.

ولأن موضوعات هذه الابحاث جديدة والنتائج التي توصلت إليها هذه الأبحاث جديدة أيضاً، فإنني جعلت عنوان هذا الكتاب "دراسات جديدة في الشعر الاندلسي".

وخاتمة القول ها هنا أن في التراث الأدبي الأندلسي شعره ونثره وموشحاته ومخطوطه ومنشوره كثيراً من الموضوعات التي تصلح أن تكون موضوعات جديدة للبحث والدراسة واستخلاص النتائج، وأسأل الله سبحانه وتعالي أن ييسر لهذا التراث باحثين مخلصين جادين يضطلعون بدراسته والتعريف به وبحقائقه وأسراره.